تسييس الحضارات والأيدولوجيات: ماكرون وشارلي إيبدو وازدراء الأديان في فرنسا
- زرقاء
- Oct 29, 2020
- 5 min read

لم يكن مستغربًا أن يُعادَ نشر رسوم مجلة "شارلي إيبدو" الكارتونية المسيئة للنبي محمد (عليه السلام) كما حدث مؤخرًا، غير أن خيبة الأمل جاءت من تأييد الرئيس ماكرون الصريح لهذه الرسومات وادعائه بأن "الإسلام يمر بأزمة"، حيث أدلى بتصريحات حملت طابعًا استشراقيّا وعلتها نبره استعمارية جديدة، ومنها قوله: "أريد أن أؤسِّس في فرنسا إسلامًا يتماشى مع روح التنوير".
عندما استمعت إلى تصريحاته، تبادر مفهوم "صراع الحضارات إلى ذهني على الفور. فمنذ أشهر قليلة، جمعني نقاشُ مع أكاديميةٌ مسلمةُ في الولايات المتحدة، كانت تصرُّ على ضرورة الكفِ عن تدريس نظرية صامويل هنتنغتون للطلاب، وهي نظرية اختزالية مثيرة للجدل، مدعيةً أن "صراع الحضارات" يرسِّخ الحواجز الصلبة المتوهَّمة التي تضع "الشرق في مقابل الغرب" و"المسلم في مقابل المسيحي" و"نحن في مقابل هم". كانت حجتها، التي لمستُ فيها شيئًّا من الحكمة، أن الهجرة والعولمة قد أذابا هذه الحدود الفاصلة بين "الشرق والغرب" وأن الدين والثقافة لا يمكن ربطهما بعد الآن بـ "حضارة" بعينها، فالإسلام حاضرُ "في الغرب" و"الغرب" وقيمه قد تلمسهما في حياة قاطني "الشرق". لقد أدركت بعد خطاب ماكرون الأخير وتأييده لازدراء الدين أن القضية ليست في "الصراع" بين الحضارات بقدر ما هي متعلقة بـ "تسييس" الحضارات وأيدولوجياتها.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُهاجم فيها النبي محمد (عليه السلام) عبر أفعال مسيئة للدين في أوروبا وغيرها من البلدان. فمنذ عقد مضى، نشرت جريدة دنماركية رسومًا كارتونية مماثلة أثارت حنقَ المسلمين حول العالم. وقيل لنا أنها من قبيل "حرية تعبير"، وهنا نسأل إذا كان واضحًا لكل ذي عقل أن هذه التصريحات أو الأفعال التي تحطّ من قدر الإسلام أو القرآن أو النبي سيستتبعها ردة فعل قوية من المسلمين، فلماذا تتكرر؟ لماذا يشعل مؤيدو حرية التعبير فتيلَ النيران ثم يندهشون من اندلاع الحريق؟ لماذا يشعرون بضرورة توجيه الإهانة لغيرهم لا لشيء إلا لمجرد أنهم قادرون على ذلك؟ والإساءة هنا مقصودة على ما يبدو، فقد أصبحت وسيلة للتعبير عن الهيمنة التي تؤكد "تفوق" الفلسفة الغربية ومعتقداتها على المسلمين. وأقول "المسلمين" لأن ماكرون – وأمثاله - هو من خصنا بالذكر دون غيرنا في سياق حديثه عن التنوير.
بصفتي أكاديمية تعلمتُ في الغرب، والشرق الأوسط هو موطن ولادتي ومحل عملي، أصابني الإحباط زمنا طويلًا بسبب المقاربات السياسية والنظريات الاجتماعية المتمحورة حول أوروبا والتي لا يقتصر الأمر على تدريسها في المؤسسات حول العالم فحسب، بل تقدم إطارًا للسياسات الدولية التي تعزز تراتبية السلطة وتبرر الاستعمار الجديد.
إن مجمل الخطاب الذي تتبناه "شارلي إيبدو" والذي دعمه ماكرون بكل قوَّة جرى تأطيره ليندرج ضمن مفهوم حرية التعبير". يدّعي ماكرون أن حرية التعبير هي إحدى القيم الأساسية التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية، والحرية في فرنسا، بحسب قوله، تعني التمتع بـ "حرية الاعتقاد من عدمه، ولا يمكن فصل حرية الاعتقاد عن حرية التعبير". وهذا التقديس لـ "حرية التعبير" ما هو إلا خرافة مسيَّسة، فافتراضنا لصحة هذا المنطق في فرنسا كما يدعي ماكرون يجعلنا نسأل: لماذا لا تجيز فرنسا إنكار الهولوكوست وإبادة الأرمن؟ ولماذا لا تبيح الإساءة للعلم الفرنسي والنشيد الوطني؟ إن حرية التعبير في فرنسا لا تخلو من اعتبارات أيدولوجية.
ولكي أصيغ موقفي ضمان سياق محدد، أشير إلى أن تاريخ أوروبا في الهجوم على النبي وعلى الإسلام سابق لظهور مفهوم حرية التعبير نفسها، وجذور هذا الهجوم متأصلة في تاريخ أوروبا الديني والأيديولوجي والسياسي في العصور الوسطي وفي تاريخ المسيحية على مدى ألف عام، ولا يتسع المقام هنا لشرح التفاصيل.
لقد مثَّل ظهور ما يُسمى بمفهوم "التنوير" نقطة تحوّل في تاريخ أوروبا الحديثة، إذ لم يكتفي هذا المفهوم بتأسيس مقاربة للـ"حداثة" والعقلانية والمنطق تتمركز حول الذات الأوروبية فحسب، بل أكسبَ لغةَ الكراهية تجاه الإسلام طابعًا مؤسّسيًا. لقد استخدمَ فلاسفة التنوير من أمثال "فولتير" و"كانت" الذين يُشار إليهم بالبنان باعتبارهم مؤسسي "حقوق الإنسان" لغة عدوانية مقيتة في وصفهم للنبي. وهؤلاء الأعلامُ من المفكرين وفلسفاتهم هم من يرسمون ملامح الدساتير والهياكل السياسية في الغرب وغيره من مناطق العالم. لقد أسَّس فلاسفة التنوير تراتبيات في إنتاج المعرفة، فـ "كانت"، الذي مجَّد "الفلسفة الأخلاقية" التي أشار إليها ماكرون في خطابه، كان عنصريًّا. ومن ثمَّ، فإنه هذه الفلسفة التي تحمل شعار المنطق والعقل وحقوق الإنسان هي فلسفة مختلة بطبيعتها، لأنها فلسفة "حصرية" لا تنطبق إلا على التجربة الأوروبية، وتخلو من صفة "العالمية". يجب علينا النظر إلى مؤسسي هذه "المفاهيم العالمية"، فـ"ماركس" و"بورك" و"ميل" على سبيل المثال رأوا في الاستعمار وسيلة تحديث للـ"متخلفين" ورأوا العالم غير الغربي "همجيًّا ومتوحشًّا"، ومع ذلك تُدرَّس أعمالهم في المؤسسات الأكاديمية في جميع أنحاء العالم في الوقت الذي نحاول فيها بناء مجتمعات أكثر "مساواة" و"تسامحًا"، ولو نظريًّا على الأقل.
ما أريد قوله إن ماكرون وأمثاله هم نتاج تنشئة اجتماعية لهياكلَ جرى فيها تسييس وتطبيع الأيدولوجيات العنصرية والاستشراقية التي أفرزتها حركة "التنوير". ولكي نتوصل لحلول تعالج هذه الكراهية والتهميش الذي تتعرض له فئات دينية بعينها، علينا النظر في أصل المشكلة التي تكمن في الفلسفة الأساسية التي تقوم عليها هذه الدول وهياكلها.
كما لا شك أن خطاب الرئيس الفرنسي المناهض للإسلام يرتبط باستراتيجية حملة إعادة انتخابه، فهذا النهجُ الشعبوي يستميل الجناح اليميني. ومن ثمَّ، تجلَّت دوافع ماكرون السياسية في خطاب الكراهية الموجه ضد عموم المسلمين وليس مسلمي فرنسا فحسب، فقد ادعى أن: "الإسلام دين يمر اليوم بأزمة في جميع بقاع العالم". ولذا، فهو يريد "تحرير" الإسلام في بلاده، معتمدًا في منهجه الاستشراقي الجديد على حالة الجدل الشعبي ذي الصبغة الوطنية حول ماذا يعني أن تكون مواطنًا فرنسيًا "مناسبًا". وقدد شدَّد في خطابه قائلًا: "أنت لا تختار جزءًا واحدًا من فرنسا. أنت تختار فرنسا ... لن تسمح الجمهورية بأي مغامرة انفصالية أبدًا". يكرر ماكرون ادعاءه مرارًا أنه من دعاة العلمانية ويهدف إلى "الدفاع عن الجمهورية وقيمها وضمان احترامها لوعود المساواة والتحرر"، وفي الحقيقة أنه في خضم محاولاته لمحاربة النزعة "الانفصالية الإسلامية" في فرنسا زاد من تسّييس الدين بل والمفارقة أنه زاد أيضًا من تهميش المسلمين.
لفرنسا تاريخ استعماري طويل في البلدان الإسلامية في إفريقيا والشرق الأوسط، وقد اتسم هذا الاستعمار بشدة قسوته، ذلك أنه سعى إلى محو ثقافات السكان الأصليين وتحويل المواطنين إلى نسخة مكررة من نظرائهم الفرنسيين. ولم يحدث أن اعتذرت فرنسا قط عن قتل آلاف الأشخاص واستغلاهم خلال فترة الاستعمار. واليوم، تحاول فرنسا "المستنيرة"، وعلى شاكلتها العديد من البلدان الغربية، أن تؤكد هيمنتها مجددًا على العالم الإسلامي، ولكن هذه المرة بسلاح الأيديولوجية بدلاً من الوسائل المادية أو السفسطة القانونية.
عندما ذهب ماكرون إلى لبنان في أعقاب الانفجار الهائل الذي دمر بيروت في أغسطس الماضي، كان يرتدي عباءة المخلّص الأوروبي المثالي؛ فقد أعرب عن "حبه" للشعب اللبناني، ولكنه لم يعترف بما ألحقه الاستعمار الفرنسي من أضرار في لبنان. تنطبق هذه المعايير المزدوجة أيضًا على تأييده لازدراء الدين عندما يكون الازدراء موجهًا للرجل الذي يسكنُ في قلوب جميع المسلمين حول العالم ويستهدف دينهم. يطالب ماكرون المسلمين الفرنسيين بوجوب "احترام" قيم الجمهورية الفرنسية، ولكنه في المقابل لا يبدي احترامًا للإسلام أو المسلمين؛ إنها لغة الهيمنة وتأكيد القوة الاستعمارية الجديدة.
القضية هنا ليست تأطير ازدراء الدين ليندرج تحت مفهوم حرية التعبير فحسب؛ بل هي سطوة المركزية الأوروبية والنفاق الذي يتم من خلالهما تعزيز "حرية التعبير" الانتقائية وتسييس الأيديولوجيات الكبرى مثل "التنوير" بمفهومه العالمي و "القومية" و "العلمانية". وفي ظل تنامي روح الفاشية والشعبوية في أوروبا، قد يزداد تكرار هذه الصدامات الأيديولوجية ويتفاقم تأثيرها السيء. فبدلاً من العمل على التصدي للأزمة الحقيقية المتمثلة في العنصرية التي تضرب هياكلَ فرنسا ومنهجيتها وأيدولوجيتها، يفضل إيمانويل ماكرون "إصلاح" الإسلام.
ينبغي على كل من شعر بالإهانة من رسوم "شارلي إبدو" أن يسأل عما في جعبتنا من حلول أو بدائل لهذه الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية المنحازة بطبيعتها. ما الذي يجب أن نقاطعه تحديدًا ولماذا؟ هل يمكن للمقاطعة الاحتجاجية للبضائع المادية أن تُصلِح الاختلالات الهيكلية والمنهجية التي تعاني منها الفلسفة السياسية الدولية؟ ربما لا، لكنها ستلفت الانتباه إلى هذا الخلل، فليس بأيدينا حاليًّا أفضل من هذا الخيار لنبدأ نقاشنا المهم حول هذه القضية.
Comments